الإثنين 10 مارس 2025 12:36 صـ 9 رمضان 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    معاناة المرأة في زمن موسى (8) المعاناة الثالثة لأُمِّ موسى

    رابطة علماء أهل السنة

    في اللحظة التي كان الحوار يدور بين فرعون وامرأته في موضوع قتل موسى، كانت أُمُّ موسى في شدَّة معاناتها من فقدها لرضيعها، حتى وصف الله حالها بقوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص: 10]، أصبح فؤادها فارغًا لا عقل فيه يُفكِّر، أو يُدبِّر الأمر، من شدَّة هول الصدمة عليها بفقدها لطفلها، بل كادت أن تفضح نفسها وتُعلن عن فقدها لطفلها في اليمِّ، لولا لطف الله بها.

    قال ابنُ كَثِير رَحِمَهُ الله: (يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أَيْ إِنْ كَادَتْ مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظْهِرُ أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتَهَا وَصَبَّرَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)). (تفسير ابن كثير 6/ 201)

    وقال السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ الله: (ولما فقدت موسى أُمُّه، حزنت حزنًا شديدًا، وأصبح فؤادها فارغًا من القلق الذي أزعجها، عَلَى مقتضى الحالة البشرية، مع أن الله تعالى نهاها عن الحزن والخوف، ووعدها بردِّه. (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي: بما فِي قلبها (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) فثبَّتناها، فصبرت، ولم تُبدِ به. (لِتَكُونَ) بذلك الصبر والثبات (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت، ازداد بذلك إيمانه، ودل ذلك عَلَى أن استمرار الجزع مع العبد، دليلٌ عَلَى ضعف إيمانه). (تفسير السعدي 613)

    من الطبيعي أن يصاب الإنسان بالحزن عند المصيبة، ولكن أن يستمرَّ معه الحزنُ، أو يتصرَّف بخلاف الشرع، فهذا أمرٌ مذموم، ومخالفٌ للصبر الذي أمرنا الله به.
    قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 156-157]

    ولما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم امرأة تبكي عند قبرٍ أمرها بالصبر، فعن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رضي الله عنه قالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فقالَ: (اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي). قالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي. وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَها: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . فَأَتَتْ بابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فقالَت: لَمْ أَعْرِفْكَ. فقالَ: (‌إِنَّما ‌الصَّبْرُ ‌عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى). (رواه البخاري)

    فالحزن مما يُبتلى به المسلم، ولكن عليه أن يتعامل معه بما أمر الله عَزَّ وَجَـلَّ، وقد فقد النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم عليه السلام، فعلَّمنا عليه الصلاة والسلام كيف نتعامل مع مثل هذه المصائب فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ)، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهيمُ ‌لَمَحْزُونُونَ). (رواه البخاري)

    وهذا هو المطلوب منكِ أختي الكريمة عند المصيبة، أن يقف أمر الحزن عند القلب ولا يتعداه عــــــلى اللسان بالبكاء والعـويل فيتحـوَّل الحُــزن إلى نياحة، فتقعين في كبيرة مــن الكبائر، قال عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ). (رواه مسلم)
    وقَالَ صلى الله عليه وسلم : (النِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ النَّائِحَةَ إِنْ لَمْ تَتُبْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَإِنَّهَا تُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سَرَابِيلُ مِنْ قَطِرَانٍ، ثُمَّ يُعْلَى عَلَيْهَا بِدِرْعٍ مِنْ لَهَبِ النَّارِ). (رواه ابن ماجه)

    وما حدث لأُمِّ موسى من الحُزن والخوف على طفلها الرضيع كاد أن يخرج عن الحدِّ المشروع، لولا لطفُ الله بها وربطه على قلبها، قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
    قال الطاهر بن عاشور رَحِمَهُ الله: (وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: تَوْثِيقُهُ عَنْ أَنْ يَضْعُفَ كَمَا يُشَدُّ الْعُضْوُ الْوَهِنُ، أَيْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بِخَلْقِ الصَّبْرِ فِيهِ). (التحرير والتنوير 20/ 82)

    وقال ابن أبي زمنين رحمه الله: (‌الرَّبْطُ ‌عَلَى ‌الْقَلْبِ: إِلْهَامُ الصَّبْرِ وَتَشْدِيدُهُ وَتَقْوِيَتُهُ). (تفسير القرآن العزيز 3/ 318)
    وقال ابن حيان الأندلسي رحمه الله: (والربط الشدُّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ التَّزَلْزُلِ). (البحر المحيط 5/ 283)

    فالربط على القلب نعمة من الله يؤتيها من يشاء من عباده المؤمنين، وأكثر ما يحتاجها المؤمن وقت الشدَّة، وعند إقامة الحقِّ في زمن الباطل، وفي مواجهة أهل الباطل والطغاة أمثال فرعون ومن تشبَّه به.

    ففي غزوة بدر ذكر الله مِنَّتَهُ على الصحابة فقال: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) [الأنفال: 11]
    والفتية في قصة أصحاب الكهف، قال الله عنهم في مواجهتهم لقومهم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف: 13-15].

    وأُمُّ موسى احتاجت إلى هذه النعمة فمَنَّ الله عليها بها، لتصبر في مواجهة طغيان فرعون وقتله للأطفال.
    وإذا ربط الله على قلب المؤمن، ثبت، وصبر، وأحسن تدبير الأمر.
    وهذا ما وقع لأُمِّ موسى.
    فكيف تصرفت في هذه المعاناة الثالثة التي مرت بها؟

    نُكملُ غدًا إنْ شاءَ الله.

    قصة معاناة المرأة زمن موسى الحرية التقدم

    مقالات