الإثنين 7 أبريل 2025 11:25 مـ 8 شوال 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    معاناة المرأة في زمن موسى .. (7) تعلّق قلب امرأة فرعون بالطفل الرضيع

    رابطة علماء أهل السنة

    تحرَّك التابوت في اليمِّ وفيه قطعة من قلب أُمِّ موسى، وسار به اليمُّ إلى قصر فرعون، وهناك انتشله الحرس وجاؤوا به إلى فرعون، وكانت امرأته حاضرة، فلما رأته ألقى الله في قلبها حُبَّه، فقالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [القصص: 9]

    قال ابنُ كَثِير رَحِمَهُ الله: (وقوله تعالى: (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الآية، يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ هَمَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عَنْهُ وَتَذُبُّ دُونَهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فقال فرعون: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا، فَكَانَ كذلك، وهداها الله بسببه وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ). (تفسير ابن كثير 6/ 200)

    وقال الطَّاهرُ بن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ انْتَشَلُوهُ جَعَلُوهُ بَيْنَ أَيْدِي فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ، فَرَقَّتْ لَهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَصَرَفَتْ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِهِ، بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ؛ بِلَوْنِ جَلْوَتِهِ وَمَلَامِحِ وَجْهِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ النَّيْلُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِظُهُورِهِ أَنَّهُ لَمْ يَطُلْ مَكْثُ تَابُوتِهِ فِي الْمَاءِ وَلَا اضْطِرَابُهُ بِكَثْرَةِ التَّنَقُّلِ، فَعَلِمَ أَنَّ وَقْعَهُ فِي التَّابُوتِ لِقَصْدِ إِنْجَائِهِ مِنَ الذَّبْحِ. وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَ انْتِشَالِهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ التَّابُوتِ. وَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ امْرَأَةً مُلْهَمَةً لِلْخَيْرِ وَقَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى بِسَبَبِهَا). (التحرير والتنوير 20/ 77)

    لقد واجهت امرأة فرعون زوجها فرعون بكلمة قوية تنهاه عن قتل الطفل فقالت: (لَا تَقْتُلُوهُ) وهذا نهي صريح لفرعون بألَّا يقتل الطفل الرضيع ولو لم يرغب أن يكون قُرَّة عين له.
    ومثل هذا الأسلوب عادة لا يقبله الرجل من امرأته، فكيف إذا كان الزوج هو فرعون الذي تكبَّر في الأرض وطغى؟!

    فكان المتوقَّع منه في تلك اللحظة بحسب ما عُرف عنه من الطغيان أن يُوبِّخ أو يُؤدِّب امرأته على تَجرُّئها في الكلام معه بصيغة الأمر والنهي، وأن يقتل الطفل عنادًا لها، ولكنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ألهم امرأة فرعون فقالت مباشرة بعد قولها: (لَا تَقْتُلُوهُ): (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، مسوِّغةً له سبب طلبها بمنع قتله.

    قال الطَّاهر بن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهَا: (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) إِزَالَةَ مَا خَامَرَ نَفْسَ فِرْعَوْنَ مِنْ خَشْيَةِ فَسَادِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ فَتًى إِسْرَائِيلِيٍّ بِأَنَّ هَذَا الطِّفْلَ لَا يَكُونُ هُوَ الْمَخُوفَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْضَمَّ فِي أَهْلِهِمْ وَسَيَكُونُ رَبِيَّهُمْ فَإِنَّهُ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعُهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَلَدِ. فَأَقْنَعَتْ فِرْعَوْنَ بِقِيَاسٍ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُجَرَّبَةِ فِي عَلَاقَةِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالتَّبَنِّي وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي بِالشَّرِّ. وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ الِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)؛ أَيْ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ خَفِيَّ إِرَادَةِ اللَّهِ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ بِسَبَبِ مُوسَى). (التحرير والتنوير 20/ 79)

    وتصرُّفُ امرأة فرعون يدلُّ على مدى الخوف من فرعون الذي استسهل قتلَ الأطفال، ولم يرحم أُمَّهاتهم، ولم يُراعِ حرمة نساء بني إسرائيل، فلا غرابة أن تخاف منه امرأتُه!
    وقد رأينا أمثال فرعون من طواغيت زماننا من سار على نهج فرعون في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، واستباح أعراض النساء، وفعل بالناس الأفاعيل من أنواع التعذيب في السجون وغيرها، كلُّ هذا من أجل الحفاظ على ملكه وسلطانه، ولكن الله جعل لنا العبرة في إزالة بعضهم في حياتنا، لنعلم علم اليقين أنَّ وعد الله حقٌّ، وأن الظلم لن يدوم، وما سورية عنا ببعيد!

    وقد رأينا في واقع الحياة، أن المتغطرس على الناس خارج بيته يُسلِّط الله عليه امرأته داخل البيت، وإن كانت هذه ليست قاعدة عامة.
    وقد يكون هذا من باب: الجزاء من جنس العمل، فكما أنه متسلِّط على الناس، يُسلِّط الله عليه من يذِلُّه في بيته.
    وهذا التسلُّط من المرأة على زوجها لا يصدر إلا من امرأة لم تلتزم بتعاليم هذا الدين العظيم. فهو ظالم سلَّط الله عليه ظالمًا مثله، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129]
    أما المرأة الصالحة فإنها لا تفعل ذلك، ولو ظلمها زوجها، لأنها تتعامل مع الله، وتريد ما عند الله من الثواب، فلا تقابل السيئة بمثلها، امتثالًا لقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34-35].
    فالتصرُّفات السيئة من الزوج تُدفع بأعمالٍ حسنة من الزَّوجة، حتى تنقلب العداوة إلى مودة.

    ولعل من الأمور العظيمة التي لو فعلتها الزوجة فهي من أهل الجنة، ما جاء ذكره في حديث النبي  والذي قال فيه: (‌أَلا ‌أُخْبِرُكُمْ ‌بِنِسَائِكُمْ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ، جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بَيْدَ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ وَاللهِ لا أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى). (رواه النسائي في الكبرى)
    وهذا الخُلُق لا تفعله مَن في نفسها شيءٌ من الكِبْر.

    وهكذا صرف الله فرعون عن قتل موسى وجعل امرأته سببًا في ذلك، فدخل موسى عليه السلام قصر فرعون الذي ينتظره منذ سنوات ليقتله، وأدخله الله في قلب امرأة فرعون من أول نظرة نظرت إليه، وهي من مِنَنِ الله على موسى كما قال الله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه: 39].

    فموسى عليه السلام في قصر فرعون وفي قلب امرأة فرعون في آن واحد، فماذا سيفعل فرعون ليصرف عن نفسه أمر الله الذي قضاه في سابق علمه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 5 - 6]؟
    لم تنته مِنَّة الله على موسى، ولم تنته معاناة أُمِّ موسى من فقدها لرضيعها، وإن كانت هذه خطوة ثانية في الفرج من الذي تعانيه أُمُّ موسى، ولكنها لم تعلم بها.
    نُكملُ غدًا إنْ شاءَ الله.

    قصة معاناة المرأة زمن موسى الحرية التقدم

    مقالات