مستقبل الديار الشامية في ظل التدافعات الإقليمية
الدكتور عطية عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةلا يملك أحدٌ تجاه سنّة التدافع دفعًا ولا منعًا؛ لأنّ السنن الإلهية قوانين ماضية تتسم بالعموم والإطلاق والتجرد، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، ومن المؤكد أنّ هذه السنة من نعم الله على البشرية، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ}؛ فما هو المتوقع لبلاد الشام في خضم التدافعات التي نشهدها الآن؟ إلى أيّ حدٍّ يمكن أن تنجح أو تخفق المخططات الصهيونية في المنطقة، وإلى أيّ مدًى يمكن أن تمثل التجربة السورية صعودًا يأخذ المنطقة إلى مكان أفضل في إدارة الصراع أو هبوطًا يهوي بها في أودية سحيقة يُلْقِي فيها الصراع بكلكله على المسلمين؟
بين المقاومة والصهاينة
ليس من السهل أن يتراجع المدّ اليمينيّ في الكيان الصهيونيّ، ولا أن يكُفّ عن التصعيد الممنهج؛ لأسباب تستعصي على الأفول، منها أنّ صعود اليمين في العالم كله -وفق نظرية هنتنغتون- حتمية من حتميات التحول الحضاريّ القادم، الذي هو بدوره حتميٌّ، ومنها تراجع النظرية الصهيونية عند عامّة اليهود عدا اليهود الدينيين؛ بما يعني ظهور الصهيونية الدينية (اليمينية) على الصهيونية السياسية (العلمانية)، ومنها اتساع ظاهرة الهجرة العكسية بعد طوفان الأقصى في أوساط العلمانيين أكثر منها في أوساط المتطرفين الدينيين، وإذن؛ فلا أمل في توقف الصراع داخل فلسطين، ولا أمل حتى في دخوله في حالة الفتور المرحليّ أو الكمون الاستراتيجي، وفي المقابل: لن تتراجع المقاومة الفلسطينية -في غزة أو الضفة- عن مواصلة نضالها المسلح، وذلك سواء استمرت حماس في بسط سلطانها السياسيّ على غزة كما يتوقع البعض وكما هو ظاهر إلى الآن، أو سحبت نفسها من ذلك الميدان وانسربت في سراديبها وأنفاقها كما يتوقع آخرون وكما تشير إليه التصريحات الصهيونية التي تتوشح بالحسم ولا تنطوي إلا على الأمانيّ.
ولئن كانت التوقعات تشير إلى احتمالية اطِّراد مسيرة التطبيع فمن المؤكد أنّها لن تفيد الإسرائيليين بجديد؛ لأنّ التطبيع نفسَهُ قد فَرَّغَهُ طوفان الأقصى من مضمونه وأقصاه عن عمقه الاستراتيجي، بسحب الشعوب وجرّها لتصطفَّ وراء المقاومة وتُمَثِّلَ لحكامها عبئًا يجعلهم -على الأقل- يسكبون ماء الوجه في سبيل تجاهله، وإذا كانت دول الطوق -ولاسيما الأردن- قد ظلت متماسكة لم يزلزل الطوفانُ وتوابعُهُ أركانها؛ فإنّه من الصعب أن تظلّ محتفظة بتوازنها على حبل أدقّ من الشعرة، مشدود بين جهتين متنازعتين ذاهبتين -بحقٍّ أو بباطل- إلى أقصى آماد الراديكالية، وكأنّ كلّ هذه العوامل اجتمعت حول طوفان الأقصى ليتحقق مقصود إلهيّ أشارت إليه هذه الآية: {وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
التجربة السورية الواقع والمآل
هل سينجح “الشرع” ورجالُه في تحقيق الأحلام التي كانوا ينسجونها في سِنِي الكفاح والمعاناة؟ بالقطع: لا؛ فدون ذلك خرط القتاد ومحاصرة البلاد واشتعال الفتن في كلّ واد وناد، وسوريا الجديدة لا تزال وليدة، بلا أظفار ولا أسنان ولا أدوات للمواجهة والعناد، لكنّهم لن يعدموا في سياق الإصلاح المستطاع نجاحًا يمهد لنجاحات يمكن التخطيط له ولها بتؤدة وأناة، ويبدو أنّ المنظومة الحاكمة الآن وعلى رأسها “الشرع” تدرك ذلك، وتعي بعمق حجم التحديات؛ لذلك فمن المتوقع أن تخرج بالبلاد من حالة الانتظار الصامت هذه إلى وضع تكون فيه ماضِيَةً في طريق خافت الضوء، تتأرجح بين استبداد عادل رحيم وبين رشاد وسداد يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ومن الواضح أنّ مناخًا كهذا سيكون كافيًا بدرجة كبيرة لتحقيق وثبة اجتماعية واقتصادية وحضارية للشعب السوريّ، لذلك أنصح السوريين بسرعة استثمار الفرصة مبكرًا.
لكنّ الخطر الإسرائيليّ سيظلّ هو الخطر الحقيقيّ، صحيحٌ أنّ إسرائيل لم تكن تمثل للشعب السوريّ في الداخل السوريّ خطرًا مباشرًا، على الرغم من احتلالها للجولان، ومكوثها فيه منذ 1967م، وصحيح كذلك أنّ نظام الأسد الذي أذاق السوريين الويلات لم يُطَبِّعْ مع الكيان الصهيونيّ، لكنّ هذا ليس سوى القراءة الخارجية للمشهد، وقد عودتنا التجارب الأليمة الوخيمة أنّ هذه القراءة لا تمثل من الجوهر إلا ما تمثله شعرة بيضاء في جلد ثور أسود، لأنّ الواقع أنّ بقاء النظام الأسديّ الساديّ جاثمًا على صدر الشعب السوريّ كان مرهونًا ببقاء الجولان ومعه الحدود الإسرائيلية آمنة مطمئنة، تنحدر خيراتها رغدًا إلى كل فم في الكيان؛ ليستمر الاستيطان ويقوى على ممارسة البغي والعدوان؛ وعليه فإنّ إسرائيل -وقد تبدلت الأوضاع إلى عكس ما تريد- لن تصبر على ذلك إلا بقدر ما تشعر بأنّها قد تخلصت من الخطر الإيرانيّ إلى الأبد، وهو في ترتيبها قريب، وفي استراتيجيتها آت لا محالة، فهل سيجدي التحالف العسكري المزمع مع تركيا؟ أغلب الظنّ: نعم، وهل ستدخل المنطقة بسبب ذلك في صراع، يطول فتتوزع الأحداث على طول الطريق، أو يقصر فتتكدس الأحداث في حقبة قصيرة؟ أغلب الظنّ أيضًا: نعم.
أمّا صفقة القرن..
أمّا صفقة القرن فتلك وصفة “ترامبية” لحلّ الأزمة، والترامبية مذهب في السياسة، يعتمد على قوة شخصية الحاكم وسلوكه سبيل المجازفة، ولا يستبعد التجديف العنيف من الخيارات السياسية؛ وعليه فإنّ ترامب سيواصل السباحة في الاتجاه المعاكس لتيار المحكمات؛ بغرض بلوغ غاية دونها ذبح شعب تشبث بوطنه وأنشب أظفاره ومخالبه في أرضه وأبى أن يفارقه تحت القصف الجهنميّ، ودونها كذلك عروش يجلس فوقها حكام يخشون السقوط ويحرصون على البقاء فوق عروشهم آمنين من أيّ حراك يقلب أمنهم خوفًا.
وإذن فربما تتولد عن العناد والعناد المضاد حالة من التفاهم على حلّ يرضي طرفين متعاندين ظاهرًا متفاهمين باطنًا، ما هو؟ لا يدري أحدٌ إلى الآن ما هو، ولكنّه حتمًا سيكون مزعجًا للفلسطينيين مؤججًا نار المقاومة من جديد، وفيما يبدو للكثيرين من المعنيين بملاحظة السنن أنّ الكيان الصهيونيّ يمضي إلى نهايته بخطى سريعة، مدفوعًا من الداخل بيمين يهودي ومن الخارج بيمين مسيحيّ.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.