الزائغون الفتانون منا، ولا يدركهم إلا حصيف
الدكتور منجد أبوبكر رابطة علماء أهل السنةسائل يقول: قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (آل عمران: 7). كيف يكون في محاولة فهم القرآن فتنة ؟
قلت: سؤال ذكي، وربما هو مما حمل جمهور المفسرين على القول بأن الزائغين المتتبعين للمتشابهات هم اليهود والنصارى، وهو ما رجحه الطبري، وابن عطية، غير أن الأخير زاد الفرق الضَّالة معهم، وفي ظني -وهو ظن أزعمه، ولا يمنع سواه، ولا أحمل أحدًا عليه، قولهم بعيد عن منطوق الآية ومفهومها، فالفريق المقابل هم الذين أوتوا العلم، ورسخوا فيه، ليدل بطريق المقابلة إلى أن الزائغين من غير الراسخين، أو ممن لم يستجمعوا أدوات الفهم، والاجتهاد في التنزيل، ولو جعل المقابل المؤمنين لصح أن الزائغين من الكافرين، فحين كان ذلك كذلك علمنا أنهم من المسلمين كالراسخين في العلم، غير أنهم جهلاء، وأصحاب فتنة، وإفساد وليس لديهم أدوات البحث اللازمة في المتشابه، ولا يملكون القدرة على تنزيله، ومما أستدل به على زعمي ما روته أمي عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله ﷺ: "هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ.."، قالت: قال رسول الله ﷺ: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) (مسلم، 2008، ص8/56)، فهم في عيون المؤمنين من الأمة المؤمنة، وهو ما يظهر من حالهم، فأرشدنا النبي ﷺ إلى أن تتبع طريقتهم في تنزيل المتشابه (فروع الشريعة) سبيلٌ مهم لمعرفة الخفي من حالهم وكشف مكرهم، فإن كان بما يخالف أهل العلم الراسخين، مع الدعوة الفجة والغليظة لطريقتهم الخاطئة، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم، وليس كذلك اليهود والنصارى، ومعهم الفِرق التي خرجت من عموم أهل السنة والجماعة، لعدم خفاء حالهم، وليس ثمة مسلم عاقل يقبل تأويلهم، فهم موضع تهمة ابتداءً.
ومن صور الفتنة الناجمة عن تتبع هؤلاء الزائغين من الأمة للمتشابهات زعمهم أنهم بلغوا القول الفصل فيها، وهو ما يكون من بعض الدعاة المبتدئين المتصدرين للإفتاء والتعليم، وما أكثرهم في زماننا، وهم بإرادة حمل الناس على ما يترجح لهم في فهم المتشابهات يزعمون القداسة لآرائهم، وكأنها في رتبة النص من حيث وجوب النزول على حكمه، وهو وجه قبيح من وجوه الفتنة بلا شك ، كما في منهجيتهم الفجة نوع من الاتهام لنصوص الشريعة بالميوعة والنقص، مع أن المتشاهات من وجوه الكمال لو كانوا يعقلون، لذا حرصت النصوص على وجود المتشابهات وتركها مساحة خضراء مفتوحة للبحث والتأمل والاختلاف الإيجابي، أو اختلاف التنوع، أما ذلك الجاهل الزائغ فهو بزعمه الحسم في المتشابهات فهو بالضرورة يزعم أنه استطاع ما لم يستطعه الأوائل، واكمل في الشريعة ما كان خداجًا منها، وتمم لها ما كان ناقصًا فيها، ولا شك ففعله مخالف لمقاصد الشارع من تركها على صورتها المتشابهة، ومن أظهر صور طيش الفقيه أو المفسر، ومن أبين علامات قلة بحثه وضيق أفقه دعواه الحسم في مسائل الخلاف أو المتشابهات.
وللتنبيه: فليس في البحث في المتشابهات إشكال، بل هو واجب على العلماء، وإنما الإشكال في اعتقاد بعضهم أنهم بنتائجهم انتقلوا بها من مساحة الخلافيات والمتشابهات إلى مساحة المحكمات، وهو ما لا ينكر عليه إن اعتقده في نفسه ، وإنما النكير عليه إذا حمل الناس على معتقده وأخذ بتجهيل مخالفيه وربما تكفيرهم، بما يشير إلى كبر خفي في نفسه، وأنه -وإن لم يصرح- يرفع عقله ورأيه لرتبة النص المعصوم، فالأمة لا تختلف اختلافًا معتبرًا إلا وله حظ من النظر، وهو ما لا يكون في القطعيات أو المعلوم بالضرورة، والدليل العقلي كي يكون قطعيًا ينبغي ألا يقابل بمعارض عقلي، فضلًا عن ضدٍّ صحيحٍ، وناهيك بالنقيض فإن كان ثمة شيء من ذلك فهو في أحسن أحواله ظن من الظنون، وفي المتشابهات عدم المعَارض مظنون لَا مَعْلُوم، وَالْمَوْقُوف على المظنون مظنون ولا موجب لترجيح ظن على ظن، وقول الناس ليس حجة على الناس، وأمَّا إن كان قطعياً فيجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان سمعيًا أم عقليًا، فإن اليقين لا يُرفع بالظنِّ، فإن لم يعتبر الفقيه والمفسر هذه الأصول في مناقشة المتشابهات وقعت الفتنة بين الناس.
ولا أبرئ اليهود والنصارى وأصحاب العقائد الفاسدة الخارجين من عموم أهل السنة والجماعة فهم بلا شك يحاولون فتنة المسلمين عبر تشكيكهم بدينهم، وإثارة الشبهات، وهو أمر واقع، لكننا لا نصنفهم من الزائغين، لأنهم كفار ابتداء، والزائغ مائل بعد استقامة، ولا نستدل على إرادتهم الفتنة بالمسلمين بآية آل عمران، بل بسواها.