الأحد 22 ديسمبر 2024 09:08 صـ 20 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    قوانين الأسرة في القرآن (1) وليس الذكر كالأنثى

    رابطة علماء أهل السنة

    كانت الأسرة أول منطلقات الدعوات كلها، ومحضن إعداد القيادات، بل أول ميلاد البشرية بأسرها، فلم يكن حديث القرآن عن آدم عليه السلام وزوجه إلا حديثاً عن أسرة اصطفاها الله لمهمة سامقة، وكلفها بإعمار الأرض بهديه ومنهجه، وما كان حديث القرآن عن أسرة نوح وذريته إلا حديثاً عن جذور هداية نبتت عليها أغصان البشرية، حتى ملأت الآفاق، ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً، وما كان الحديث عن آل إبراهيم، وآل عمران، وآل يعقوب إلا حديثاً عن أسر نشأت على الطاعة، فأنتجت جيلاً يحمل الرسالة ويؤدي الأمانة؛ (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28).

    وما كان حديث سور «البقرة» و«آل عمران» و«النساء» و«الطلاق» و«الحجرات» وغيرها إلا حديثاً عن قوانين الأسرة في القرآن، ومعالم هدايتها، وعوامل استقرارها ونجاحها في أداء مهمتها.

    لذا، فالقرآن قد استوعب تفصيلاً كل ما يتعلق بالأسرة؛ اختياراً وتأسيساً وتوثيقاً وحماية ووقاية وصيانة.

    وانطلاقاً من منهجيات القرآن، واستشرافاً لعطاءاته، فإننا ننطلق بحول الله وقوته في كتابة سلسلة مباركة عن قوانين الأسرة في القرآن الكريم، لندرك من خلالها أين يكمن الخلل في البناء الاجتماعي للبشرية، وكيف أن هذا الخلل وأمثاله ليس إلا نتيجة طبيعية لمخالفة قوانين القرآن، التي أرساها لضمان استقرار المجتمع وفلاحه، كما ندرك كذلك أنه لا حل للمشكلات المجتمعية، بل لا حل لمشكلات البشرية بأسرها، إلا بالرجوع إلى تلك القوانين والانضباط بها، والتحقق بمقتضياتها.

    وأول تلك القوانين «قانون الذكورة والأنوثة»؛ ويتكون هذا القانون ككل قوانين القرآن التي سنتناولها وفق المنهجية التي اعتمدناها في طرحنا من مواد ثلاث؛ مادة للتوضيح والبيان، ومادة للضوابط والأحكام، ومادة للجزاء والعاقبة.

    المادة الأولى التي توضح وتبين قانون الله في خلقه سبحانه، حيث قضى في منهجيات خلقه للكون وما فيه ومن فيه، أن يكون مبنياً على قاعدة الذكورة والأنوثة، قال تعالى: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات: 49)، وأنه سبحانه قد امتن على البشرية بتلك النعمة التي لولاها ما كانت، وبدونها ما وجدت، فقال تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) (النجم: 45).

    ومخالفة تلك المادة أودت بالبشرية، فاختلطت فيها الجينات، وتلاعب الناس بمنطلقات الفطرة فأفسدوها، وتداعت جماعات الفطر الممسوخة إلى اكتفاء كل إنسان بنفسه، فيعيش في إطارها ويكتفي بها، وتكون علاقته بالغير علاقة حيوانية فلا روابط شرعية، ولا أواصر مجتمعية، ولا قيم أخلاقية، وينتج ذلك على وجه القطع حرمان البشرية من أسباب بقائها، وعوامل استمرارها، ومصادر سكينتها!

    أما المادة الثانية؛ فهي بمثابة ضابط حاكم لقاعدة الزوجية، يقول تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران: 36)؛ حيث تُرسي تلك المادة أن للذكورة متطلباتها ومعاييرها ومهامها، وللأنوثة كذلك متطلباتها ومعاييرها ومهامها، فليست للذكورة قيمة في ذاتها عن الأنوثة، وليست للأنوثة كذلك قيمة في ذاتها عن الذكورة، إنما تكمن القيمة في أداء المهمة، والقيام بها على الوجه الذي خلقت من أجله.

    كما بينت تلك المادة القرآنية المباركة أن الذكر لا يصلح لمهام الأنثى بحال، والأنثى لا تصلح لمهام الذكر بحال، والأصل أن البشرية خُلقت من نفس واحدة، قال تعالى: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (الزمر: 6).

    فما هي إلا أرواح خلقها الله تعالى، ثم قدّر أن يُسكنها أجساداً تتلاءم والمهمة التي كُلف بها كل جسم حسب معطياته ومقتضياته، إذاً هي روح ربانية وضع الله فيه أسرار خلقه وإبداع صنعه، وفطرها على ما طبعها عليه، وصبغها به؛ (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138).

    فأسكن الله تعالى بحكمة تقديره أرواحاً في أجساد ذكورية فتلبست بها، وأسكن أرواحاً أخرى في أجساد أنثوية فتلبست بلباس مهمتها التي خلقها لها، بلا اختيار من أحد، فليس إلا تقديره سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ {49} أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى)، وحينما قال الله تعالى على لسان امرأة عمران: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) لم يكن ذلك تأصيلاً لأفضلية الذكر على الأنثى أو العكس، وإنما كان تأسيساً للمهمة المختلفة التي أنيط بها كل مخلوق منهما.

    وإن مخالفة تلك المادة جعلت البشرية تموج في صراع مصنوع، وتنافس محموم، وتنازع موهوم بين الرجال والنساء، وأضحى للنساء هيئات ومؤسسات تدافع عنهن، وللرجال جيوش ومنصات تطالب بحقوقهم، وخرجت الفلسفات النسوية المشوهة التي فقدت هويتها، تنادي النساء في العالم أن ينتسبن إليها في خلع هويتهن، لتكون المرأة مسخاً لا معالم لها، وتيهاً لا قرار لها، وجسداً لا روح فيه، وعبثاً لا حكمة من وجودها.

    وليصبح الرجال كذلك وقد غابت معالم رجولتهم النفسية، وقوة شكيمتهم العقلية، ورجاحة منطقهم الفكري، ففقدوا مؤهلات القيادة وحيثيات القوامة، فصاروا مسخاً لا ملامح لهم، وضعفاً لا أمان معهم، وسيولة لا تماسك فيها!

    المادة الثالثة: وهي مادة تذكر العقوبة الربانية التي تحل بالبشرية جزاء مخالفتها لقوانين ربها، وإعراضها عن هديه سبحانه، قال تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون: 7).

    فمن أعرض عن التحقق بقانون الذكورة والأنوثة، والعمل بمقتضياته، وتخلق بأخلاقه فقد أضحى عدواً لله تعالى، وعدواً لأنبيائه وكتبه وأوليائه.

    وهذا ما نراه اليوم عياناً بياناً، إذ نشاهد جميعاً كيف تحول دعاة الانفلات الذين تنكبوا الطريق، وأفسدوا الفطرة، وسعوا لتلويث الصبغة الربانية التي خلق الله عليها الخلق، أعداءً أشداء لكل ما هو دين، وكل ما هو قيم، وليس ما حدث في دورة الألعاب الأوليمبية في فرنسا بمعزل عن هذا التشوه، إذا تمالأ أهل الفسوق والفجور في مناسبة دولية عالمية على إظهار صورة متخيلة في أذهانهم المريضة لعيسى عليه السلام وحوارييه الكرام، على هيئة حيوانية جنسية شاذة! لا تدل على شيء كدلالتها على ما يعانونه من خلل فكري، وبغض لكل ما هو دين وقيم!

    وهذا العداء أورثهم عداء الله تعالى؛ فحرمهم هدايته، وصرفهم عن طريقه، وحجبهم عن سماع الحق، فأضلهم وأعمى أبصارهم، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23).

    إنه الجزاء الرباني الذي حدده القرآن، إنه العداء لله ورسوله وقيمه الذي أوردهم المهالك، فحينما يبحث المخلوق عن قيمته بمعزل عن مكوناته وفطرته التي خلقها الله عليها لن يحصد إلا الشقاء، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).

    وسيظل يتردى في أودية الوهم والضياع حتى يفقد ذاته، فيبحث عنها ساعتها فلا يجدها، وحينئذ ربما لا يجد أمامه فرصة في الحياة إلا الانتحار، لأنه لم يعد له وجود أصلاً، فمن فقد نفسه فقد حياته، فقد انتحر حقيقة قبل أن يتعاطى ما يُنهي به حياته، انتحر يوم أن حاول الخروج من إطار المهمة التي خلقه الله لها، وصبغه الصبغة التي تناسبها على الوجه الأكمل، فتمرّد عليها، وأخذ يبحث يمنة ويسرة عن هوية أخرى!

    إن قوانين القرآن تضبط حركة حياة البشرية، وإن على المسلمين أن يعضوا عليها بالنواجذ؛ فيتحققوا بها كمنهجيات تربوية، وينشروها كمحتويات دعوية، ووسائل دعائية، وسمات أخلاقية، وأن يحملوها مادة إنقاذ للبشرية، ليستنقذوها من أوحال التيه، ويطهروها بثياب العفاف، ويحفظوا عليها فطرتها التي فطر الناس عليها.

    قوانين الأسرة القران المادة المودة السكينة الرحمة

    مقالات